ثقافة وفن

قراءة نقدية فى ديوان شيخ القبة

قراءة نقدية فى ديوان شيخ القبة

بقلم – دكتور محمد فخر الدين

في العادة لا يكون التقديم قراءة نقدية أو لغة واصفة للغة النص المقدم له لكن مثل تلك التقديمات الكلاسيكية لم تعد مهمة بالنسبة للقارئ الفطن لأنه يعتبرها في نهاية الأمر مجرد مجاملات تبررها أمور غير علمية أو إبداعية ..
مما يقتضي في نظري تقديما من نوع آخر يستحقه النص المبدع و مثل هذا الديوان تحديدا ، تقديما يقدم دفوعات حول قيمة المنجز المقدم على الأقل من الناحية الأولية و يقدمه باستحياء نقدي للقراء و لنقاد محتملين …
و تقديمي هذا يعد من هذا القبيل انه يقدم بعض ما يراه في هذا العمل و ما يشهده فيه دون أن يغوص في أعماقه تاركا ذلك لقراءات نقدية قادمة تتخذ وقتا كافيا للنظر في مضامينه المورفة تحت ظلال شعريته الظاهرة ..
ابتداء من جمالية العنوان و إحالته السردية التي تقدم وحدها حكاية اعتبارية لشخصية ظاهرة و متخفية في نفس الآن ـ شيخ القبة ـ فكلا الشيخ و القبة يقتسمان البياض و العلو لكن القصيدة الأخيرة تقلب تلك العلاقة فتسم نفسها بعنوان جديد تحت القبة شيخ
و على امتداد الديوان تشد القصائد القارئ للانغماس في أمواجها الممتدة على شاطئ شعري يغري بالجديد ..
إن هذا الديوان للشاعرة ابتسام حوسني ـ يصدم ـ القارئ بتنوع لغته و صعوبة فك أسراره بسهولته مرة و صعوبته مرة أخرى فالقصيدة لا تنكشف للقارئ المتسرع إلا بعنت و لأي متصاعد و هو ينتقل من بداية الديوان إلى آخره …
و لا تقدم القصيدة في ديوان الشاعرة ابتسام الموضوع بلغة واحدة إنها تصد و تبدي تم تنعطف في ثنايا المعنى و انعطاف دروب الشعر لتتركه يسأل و يتحرى المعنى بنفسه من خلال تجربته و ذائقته و لغته ..
و لا أخفيكم لن يكون الأمر سهلا فالقصيدة متعددة و معانيها متراتبة من الواضح إلى المجرد و من الخاص إلى العام …
إن القصيدة في هذا الديوان سر مخفي فهي تحتاج دائما إلى قراءة أخرى في نوع من البحث عن المعنى خارج المعنى بحيث تتخذ الكلمات منحى آخر
و القصائد هنا مجرد نوافذ وجودية جميلة تطل منها الشاعرة على عالم متعدد تحاول إدراكه إدراكا شعريا جماليا وواقعيا دون أن تنسى أن تعبر عن مواقفها بطريقة فنية محاولة أن تبتعد ما أمكنها عن حرقة التعبير بالمباشرة و لغة الواقع رغم أنها لم تتخل عن الإشارة إلى بؤس ذلك رمزا ووصفا و سردا فوراء كل قصيدة حكاية غير معلنة ..
فقد تنتقل الشاعرة من أسلوب إلى أسلوب و من لغة إلى لغة منوعة لغتها الشعرية من الوصف البسيط و التقاط المظاهر المباشرة إلى لغة الرمز المعقدة التي تسبح في الإيحاء و تصير بؤرة للتعبيرات البعيدة اللامتناهية و هذا اعتبره مظهرا من مظاهر الإبداع المتعددة في هذا الديوان :
فراخ محجوب
ريشها منكوش
صغارها منكوبة،
مسيرها
دروب شائكة
كما تنتقل الشاعرة كلما سنحت الفرصة الشعرية إلى لغة التناص مع التراث و الحوار معه مابين السطور ارتباطا بقصدية المعنى كما نجد في قصيدة مناخوليا …
لا موسى يأتينا منه بقبس
و لا يونس
ينزل من بطن حوته
مخلصا ….
قبل الأوان .
هكذا تتنوع اللغة في القصيدة الواحدة ما مستثمرة اللغات المتعددة متنقلة بين الماضي و الواقع مدمجة عبارات من الواقع و عبارات من النصوص الثقافية و التراثية مما يوفر انتقالا غنيا بالقارئ و صور شعرية متعددة بالغة الجمال و الدقة التي لا تكتمل إلا بتدخل القارئ في بناء المعنى و غمر ما تحت السطور من بياض و مخفي بين المعاني :
و ذاك تثيره
ذوات أخدان
جذور كرافس
من حرب سرير
لتوها عائدة،
تمشي على نهج الأولين
سيرة حميدة،
الديوان إذن يضج وصفا و رمزا و إيحاءا مما يضفي عليه جمالية خاصة و مسحة جديدة تلتقط صور الأشياء و الأشخاص و الكائنات و تخلصها من معنى الواقع إلى المعنى الشعري
و ليس ذلك بغريب فالشعر ينقذ الروح من العادي و المألوف يلتقط و يسجل الواقع و لكن بطريقة أخرى و بأسلوب آخر و هو ما قامت به الشاعرة ابتسام من خلال تنويع لغتها باستمرار ما بين تقمص موقف الآخر في نوع من الابتعاد عن الذات للغوص في أعماق الغير :
أسراب عاملات القطن
لتوها ترحل،
من أرضنا جبرا
دون أن تسأل…
كما نجد أيضا في قصيدة مستوزرينها هذا الانطلاق من أشياء الواقع اليومي :
طماطم كرافس
فاتورات كهرباء
ترتفع أسعارا
تنذر بالهجران
فيافي قفارا..
نحو بلد غريب
وفي غير مكان من الديوان نجد هذا الانفتاح على التقاط مظاهر من الواقع ..
ففي قصيدة حليب الحلزون نجد هذا النفس الشعري المنفتح على الآخر انطلاقا من مكونات الحياة الاجتماعية :
عمال عديدين
بحقل الذرة
بالفرار يلوذون،
يطلبون الأمان
و بسلامة ذويهم يفكرون…
من قحط مقرر
و من خلال الوصف و الصورة الشعرية تعلن الشاعرة زيف الخطاب السياسي و الشعارات باستعمال صور شعرية معبرة كما في قصيدة مستوزرينها …
صحيفة مقاطعة
على باب كعبتنا
علقت نهارا،
على ظهر بغل هزيل
حملها أسفارا
تجر خيبة
مرارتها تلوح شعارا
ولا يخلو الخطاب الشعري في الديوان من الجمع بين الواقعية و العجائبية في نوع من الإدهاش كما في قصيدة خشبة حبشي :
حمام الساحة
بجناحين عظيمين …
الآن يطير ،
منقاره طويل
ريشاته حرير
كما نجد في قصيدة مناخوليا
في بهو بيتنا
ديك أحمر
عرفه طويل
يكاد يخرق سقفنا،
وفي قصيدة تحت الخيام نجد نفس النمط العجائبي الذي يخترق علاقات الواقعية بصور متخيلة لها شحنة دلالية خاصة توضح هذه المفارقات التي أصبح يعيشها الإنسان في هذا العصر :
عربات خيول
تنتفض قيامة
في استسلام،
جماجم بشرية
ترتفع أضرحة
فوق ركام…
كما نجد التجاء الشاعرة و لجوءها إلى استعمال الرمز في قصيدة في باب اللوح في نوع من التناص مع نصوص أخرى مما يضفي غنى خاص على القصيدة :
أربعين ليلة
يصيبها التيه
بأرض خلاء
قفرها موحش
و أيضا نفس الصور نجدها في قصيدة : عصفور في اليد
كي نغرق في التيه
أربعين حولا
تنسب للفراش
شهيدا و قبرا !
أن اللغة و الصورة الشعرية تستقي ذلك الغنى من لغات متنوعة كالقصص و الأمثال حيث تجسد في إحدى القصائد المثل الذي يقول أن الشمس لا تغطى بالغربال ..
كما قصيدة الأوتاد :
تحاول أن تغطيني
غربالا
من عين شمس حامية
ينجيني …
لغة تراثية ذي الأوتاد
سواقي البلاد
من كل فج عميق
يأتونك
بالخبر اليقين،
يسنون الرماح
كما نجدا استعمال الإحالة التاريخية مثلا على حرب البسوس و الجمع بين المجاز و الكناية و جعل كل هذه المكونات في اسطر شعرية متقاربة لخدمة المعنى الشعري كما في قصيدة واحدة كروفيت بيجار…
بسوس شؤم
تجر أذيالها…
جلابيب سود
تأكل الطير
من رؤوسها
نخب أوطان،
و يستمر الاعتماد على الرمز و التناص في قصيدة أخرى بشكل واضح هذه المرة ” فزلوك ”
فرعون موسى
يرفع سبابته الوسطى
كي أمره إلى خالقه
يسلم ….
يناله الماء من كل جانب
و شهادته بالحق
لا يتمم
لسانه مشقوق
و في قصيدة « البحر أمامكم… ” نجد أيضا هذه الإحالة الجميلة :
قبس من طوى
الآن يخرج …
عصاه تفلق حجرا
موجه يمتزج
حلوه بمالحه
من كلتا الجهتين
طوفانا عظيما
كما تعتمد القصيدة على جمالية التشخيص كما في قصيدة عصفور في اليد :
شجرة التوت
تذرف أوراقها عبرا
على من مروا بنا
تركوا ديارنا قفرا
كذلك تتوسل القصيدة بالوصف التي ينفتح على الجانب المشهدي و التخيلي كما في قصيدة في الطراوة …
بهية صبية فتية
في خطوها الحثيث
تتمايل شوارع شقية
شفاهها ممتلئة
تدبر مكيدة
خيوطها تقية،
و في ختام هذا التقديم و من خلال عرض و ملاحظة عناوين الديوان نلاحظ تنويعا شديدا لموضوعات القصائد ..
و ما دام العنوان يعبر عن اتجاه موضوع القصيدة و اتجاهاتها التعبيرية نلاحظه و هو يتجول في موضوعات مختلفة من الحاجات اليومية إلى الموضوعات التاريخية و من العناوين البسيطة إلى العناوين المركبة مما يقدم إشارة إلى غنى المحتوى الشعري للديوان و شساعة إحاطته بالقضايا الاجتماعية و التعبيرات المرتبطة بها :
ديك البرابر تحت الخيام ــ مستوزرينها ـ البحر أمامكم ذي الأوتاد ـ مناخوليا لا يكيل بالباذنجان . أبو صفيحة بارم ذيله .. كروفيت بيجار رسم حواجب … حليب الحلزون … رنة قبقاب عصفور في اليد … كاش مايوه .. لسان عصفور شنتير نحن الزغاليل إزبلها …. و اشرب
جموع قلة شاي أم حسن … خشبة حبشي … كلوا بامية على بلاطة شايلة القلل باب اللوح . حصص إيه ! . في الطراوة. أبو زعيزع باكابورتات زيطة و زمبليطة معكوسة باسوورد برطوشي لحم و دم . ظالم يا غزال ! غسلة… بعرور قناصة سبهللة فزلوك….. تحت القبة شيخ .
و بعد هذا التقديم النقدي البسيط يمكنني الادعاء بعيدا عن كل مجاملة أو مبالغة أن الشاعرة ابتسام حوسني أبدعت على مستوى اللغة و الأسلوب و الصورة في التقاط مظاهر الواقع بمنتهى الجمال و الذائقة الشعرية المرهفة مما لا يتأتى للكثير ممن يدعون فن الشعر… و للقارئ الكريم وسع النظر …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى