مقالات وتقارير

أين نحن من الموت

بقلم / محمــــد الدكــــرورى
وضح لنا الله عز وجل أن الحياة الدنيا متاع الغرور، وكل شيء إلى الله صائر، ولا يبقى إلا وجه الله العظيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم البشر، وأحب خلق الله إلى الله، وعظه الله بالموت فقال له وهو على قيد الحياه ” إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ” ثم نادى علينا سبحانه وتعالى فقال (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) سورة آل عمران .

ومهما حرص الحريصون على الفرار من الموت، وعلى الدخول في الأغطية والمحصنات من المباني، فإن الله جل وعلا يخرج أرواحهم من داخل تلك المباني، قال عز وجل فى كتابه الكريم ” أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ” أى لو كان بناء حصينا فإن الله جل وعلا يدخل ملك الموت على الشخص الذي حان أجله فيقبضه ولو كان في برج مشيد.

فإنها الحقيقة الكبرى، كل حيٍّ سيفنَى، وكُلُّ جديدٍ سيبلى، وما هي إلا لحظةٌ واحدة، في مثلِ غمضةِ عين، أو لمحةِ بصر، تخرج فيها الروح إلى بارئها، فإذا بالعبد في عداد الأموات ، وفى هذا الوقت يكون ذهب العمر وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتك في سهو ولهو وسبات، بينما أنت على غيك حتى قيل: مات.

ونحن في غفلة الحياة، كثيرًا ما نفاجأ باتصال أو رسالة أو غير ذلك أن فلانًا مات، وقد كان في كامل صحته وعافيته، وذلك مصداق حديث أنس أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال: ” مِن اقتراب الساعة أن يرى الهلالُ قُبُلاً فيقال لليلتين، وأن تُتَّخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة ” رواه الطبراني .

وقد روي أن ملك الموت دخل على داود عليه السلام فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا مَن لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت؟! قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعدَّ بعد؟! قال: يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد؟!.

إننا نحتاج حاجة عظيمة إلى التمعن والتفكر في هذه المسألة؛ لأنها أساس التقوى، ولب العمل الصالح، وهي دافع مهم من الدوافع على القدوم على الله عز وجل بأعمال صالحة، إذا فكر الإنسان في الميت: يفكر كيف قد سالت العيون، وتفرقت الخدود، مساكين أهل القبور، عن يمينهم التراب، وعن يسارهم التراب، ومن أمامهم التراب، ومن خلفهم التراب، كانوا أهل الدور والقصور فصاروا أهل التراب والقبور، كانوا أهل النعمة فصاروا أهل الوحشة والمحنة، قد سالت العيون، وصدأة الجفون، وتقطعت الأوصال .

وبطلت الآمال، وصار الضحك بكاء، والصحة داء، والبقاء فناء، والشهوة حشرات، والتبعات زفرات، فما بيدهم إلا البكاء والحسرات، نفدت الأعمار وبقيت الأوزار، لسان حالهم يقول: حسرتنا أن ندرك وقتاً نصلي فيه ركعتين، وأنتم تقدرون وهم لا يقدرون، ما حال أزواجهم؟ ما حال أيتامهم؟ ما عاقبة أموالهم؟ الأعمال قد انقطعت، والحسرات قد بقيت، والأموال قد فنيت، والأزواج قد نكحت، والدور قد خربت .

ولنعلم جميعا أنه مَن أكثر ذكر الموت أُكْرِمَ بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة؛ ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة ، واعلموا أن تذكّر الموت لا يعني كثرةَ الحزن وطول النحيب مع الإقامة على التفريط، إن تذكرنا للموت يجب أن يقترن بخوفنا من سوء الخاتمة.

والأعمال بالخواتيم، كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ” فوالله الذي لا إله غيره! إن أحدكم لَيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ” .

ولما مات ابن عباس رضي الله عنه بالطائف، جاء طائر لم يرَ على خلقته مثله فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن إذا على شفير القبر، سُمِعَ تالٍ يتلو، لا يُرى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) .

فكفى بالموت واعظاً! ووالله! لو كان الأمر سينتهي بالموت لَهَان الأمر، لكنه مع شدته وهوله أهون مما يليه من القبر وظلمته، وكل ذلك هيِّنٌ إذا قورن بالوقوف بين يدي الله الكبير المتَعال، في موقف ترتجُّ له النفوس، وتنخلع له القلوب.

وروى الترمذي أن عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن القبرَ أولُ منازل الآخرة، فإنْ نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه“، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما رأيت منظرا قطُّ إلا القبرُ أفظعُ منه“.

فالقبر أول منازل الآخرة، فإن كان من أهل الجنة عُرض له مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار عُرض عليه مقعده من النار، ويُفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه نوراً ونعيماً إلى يوم يبعثون؛ وأما الكافر فيُضرَب بمطرقة من حديد، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرٍ فقال: ” مَن صاحب هذا القبر؟” فقالوا: فلان، فقال: “ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم“، وفي رواية قال: ” ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم“.

فلنعلم جميعا أن غاية أمنية الميت المقصِّر أن يُمدَّ له في أجله ليركع ركعتين يزيد فيها من حسناته، ويتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة، فأين نحن من هذا المقام؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى